الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه: لأنّ الدين في كلّ يوم، من وقت البعْثة، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يومًا فيومًا، فمن كان من المسلمين آخذًا بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين.وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة.وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة، كما يُروى عن مجاهد، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض، وقد كمل أيضًا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه، ومكّنه من قلب بلاد العرب.فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك.ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن: لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة، التي في آخر النساء، على القول بأنَّها آخر آية نزلت، وسورة {إذا جاء نصر الله} [النصر: 1] كذلك، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية {اليوم أكملت لكم دينكم} نحوًا من تسعين يومًا، يوحى إليه.ومعنى (اليوم) في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} نظير معناه في قوله: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}.وقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} إتمام النعمة: هو خلوصها ممّا يخالطها: من الحرج، والتعب.وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة {أكملت لكم دينكم} فيكون متعلَّقًا للظرف وهو اليوم، فيكون تمام النعمة حاصلًا يوم نزول هذه الآية.وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين، مؤمنين، خالصين، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام: إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة، وإن كان القول بذلك ضعيفًا، فتمام النعمة فيه على المسلمين: أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم، وأحرصهم على استئصالهم، لكن يناكده قوله: {أكملت لكم دينكم} إلاّ على تأويلات بعيدة.وظاهر العطف يقتضي: أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين، وهي نعمة النصر، والأخوّة، وما نالوه من المغانم، ومن جملتها إكمال الدين، فهو عطف عامّ على خاصّ.وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين، وإتمامها هو إكمال الدين، فيكون مفاد الجملتين واحدًا، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في «معاني القرآن»:
وقوله: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه، ويقابله السخط: فقد يرضى أحد شيئًا لنفسه فيقول: رضيتُ بكذا، وقد يرضى شيئًا لغيره، فهو بمعنى اختياره له، واعتقاده مناسبته له، فيعدّى باللام: للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره، كما تقول: اعتذرت له.وفي الحديث «إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا»، وكذلك هنا، فلذلك ذكر قوله: {لكم} وعُدّي {رَضيت} إلى الإسلام بدون الباء.وظاهر تناسق المعطوفات: أنّ جملة {رضيت} معطوفة على الجملتين اللتين قبلها، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين، فيكون المعنى: ورضيت لكم الإسلام دينًا اليومَ.وإذ قد كان رضي الإسلام دينًا للمسلمين ثابتًا في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف بـ {رضيت}؛ فتأوّله صاحب الكشاف بأنّ المعنى: آذنتكم بذلك في هذا اليوم، أي أعلمتكم: يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله: {اليوم}، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك، والإيذان به، لا حصول رضى الله به دينًا لهم يومئذٍ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية.فليس المراد أنّ «رضيت» مجاز في معنى «أذنت» لعدم استقامة ذلك: لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم، وهو المقصود، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله: {الإسلام}.وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة، فيكون من الكناية في التركيب.ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة، فكما استعمل الخبر كثيرًا في الدلالة على كون المخبِر عالمًا به، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه.وقد يدلّ قوله: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} على أنّ هذا الدين دين أبَدي: لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى.{فَمَنِ اضطر في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.وجود الفاء في صدر هذه الجملة، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها.وقد انفرد صاحب الكشاف ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضًا.ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها: اتّصال الكلام الناشئ عن كلام قبله، فتكون الفاء عنده للفصيحة، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات، معرّضة للمخمصة: عند انحباس الأمطار، أو في شدّة كَلَب الشتاء، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض، كما طفحت به أقوال شعرائهم.فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذنًا بتوقّععٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير: فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة إلخ.ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف: إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف {من اضطرّ في مخمصة} عليه.والأحسن عندي أن يكون موقع {فمن اضطرّ في مخمصة} متّصلًا بقوله: {ورضيت لكم الإسلام دينًا}، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه، والفاء للتفريع: تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات: مرّة بوصفه في قوله: {دينكم}، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله: {نعمتي}، ومرّة باسمه في قوله: {الإسلام}؛ فقد تقرّر بينهم: أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق، من آيات كثيرة قبل هذه الآية، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله: {فمن اضطر} الخ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة، وتفرّع على قوله: {ورضيتُ لكم الإسلام دينًا} وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة.والاضطرار: الوقوع في الضرورة، وفعله غلب عليه البناء للمجهول، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {ثم اضطرّه إلى عذاب النار} في سورة البقرة (126).والمخمصة: المجاعة، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن، لأنّ الجوع يضمر البطون، وفي الحديث تغدو خِماصًا فتروح بِطَانًا.والتجانف: التمايل، والجَنَف: الميل، قال تعالى: {فمن خَاف من موص جَنَفَا} [البقرة: 182] الآية.والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس، أو من مخالفة الدين.وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائمًا بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة، وهذا بمنزلة قوله: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد} [البقرة: 173]، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين.ووقع قوله: {فإنّ الله غفور رحيم} مغنيًا عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له، وهي دليل عليه، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن.والتقديرُ: فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور، كما قال في الآية نظيرتها {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم} [البقرة: 173]. اهـ.
|